بقلم: د. إبراهيم وحيد شحاتة
مدير تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة | استشاري التمويل المستدام | مُدرّب معتمد للتنمية المستدامة
في الوقت الذي تتجه فيه الأنظمة المالية حول العالم نحو الانفتاح وتبادل البيانات، تستعد مصر لمرحلة جديدة من التحول المصرفي مع تبنّي مفهوم البنوك المفتوحة (Open Banking) — الإطار الذي يُعيد تعريف العلاقة بين العميل والبنك عبر تمكين الأفراد والشركات من مشاركة بياناتهم المالية بشكل آمن مع أطراف ثالثة، بإذنهم الكامل.
هذا النموذج لا يهدف فقط إلى رقمنة الخدمات، بل إلى إعادة هيكلة الاقتصاد المالي ليقوم على الشفافية والمنافسة والابتكار. فبدل أن يحتكر البنك بيانات العميل، تصبح هذه البيانات ملكًا له، يقرر كيف يستخدمها ومع من يشاركها.
الركائز المصرية للتحول نحو Open Banking
من الناحية التقنية، تمتلك مصر اليوم قاعدة صلبة لبناء منظومة Open Banking وطنية.
فشبكة المدفوعات اللحظية (Instant Payment Network – IPN) وتطبيق InstaPay اللذان أطلقتهما شركة بنوك مصر، أتاحا نقل الأموال بين الحسابات والمحافظ والبطاقات في لحظات، وهو ما يمهّد الطريق لتطبيق خدمات الـAIS (خدمات معلومات الحساب) وPIS (خدمات بدء الدفع).
أما على الصعيد التشريعي، فقد بدأ البنك المركزي المصري منذ عام 2022 في دراسة وضع إطار تنظيمي للبنوك المفتوحة، بالتوازي مع مشروعات الهوية الرقمية والتوقيع الإلكتروني وحماية البيانات. هذه الخطوات ليست معزولة، بل جزء من رؤية أوسع لاقتصاد رقمي متكامل تُشكّل فيه البيانات العنصر الأهم في خلق القيمة.
«هوية»… الثقة التي تبني الانفتاح
لا يمكن لأي نظام مصرفي مفتوح أن يعمل دون بنية تحقق من الهوية قوية وآمنة.
وهنا يبرز دور تطبيق “هوية”، المنصة الرقمية التي أطلقها البنك المركزي المصري كهوية موحّدة للمواطنين.
يتيح التطبيق إثبات الشخصية إلكترونيًا عبر التحقق البيومتري (بصمة الإصبع أو الوجه)، وفتح الحسابات وتنفيذ المعاملات البنكية دون أوراق أو حضور فعلي.
هذه الخطوة لا تعني فقط تبسيط الإجراءات، بل تأسيس الثقة في بيئة المشاركة.
فكل موافقة على مشاركة بيانات أو تنفيذ عملية مالية ستكون موثقة عبر «هوية»، ما يجعل المنظومة أكثر أمانًا ويغلق الباب أمام التلاعب أو انتحال الهوية.
تجارب دولية ملهمة
• المملكة المتحدة كانت أول من أطلق إطارًا وطنيًا موحدًا للـOpen Banking في عام 2018، ما سمح بنشوء أكثر من 200 تطبيق مالي جديد خلال عامين فقط.
• الاتحاد الأوروبي تبنّى التشريعات (PSD2 وPSD3) التي تفرض على البنوك مشاركة بيانات العملاء مع مقدّمي الخدمات المالية الآخرين وفق معايير أمنية دقيقة.
• دول الخليج مثل البحرين والسعودية والإمارات وضعت أطرًا تنفيذية تدريجية، وأطلقت مختبرات امتثال (Open Banking Sandbox) لاختبار التطبيقات قبل طرحها للسوق.
مصر تمتلك المقومات لتكرار التجربة، بل وتطوير نموذجها الخاص الذي يراعي طبيعة السوق المحلية وعدد العملاء غير المخدومين مصرفيًا، والذي يتجاوز 30% من السكان.
خارطة الطريق المصرية
1. إصدار إطار تنظيمي رسمي للـOpen Banking يحدد الأدوار والمسؤوليات والمعايير الفنية.
2. إطلاق “البوابة الوطنية لواجهات البرمجة” بإشراف البنك المركزي وشركة بنوك مصر.
3. دمج “هوية” في المنظومة لضمان التعريف الرقمي الموحّد والموافقة القانونية.
4. تحفيز البنوك على الابتكار المشترك مع شركات التكنولوجيا المالية (FinTechs) لتطوير منتجات رقمية موجهة للأفراد والمشروعات الصغيرة.
5. نشر الثقافة المصرفية الرقمية وتوعية العملاء بأهمية التحكم في بياناتهم وكيفية الاستفادة منها.
التحديات الواقعية
يبقى التحدي الأكبر في إدارة الخصوصية والثقة، إذ يتطلب النظام المفتوح توعية المستخدمين بحقوقهم وطرق حماية بياناتهم. كما يحتاج القطاع المصرفي إلى توحيد المعايير التقنية بين البنوك، وتحديث البنية التكنولوجية للبنوك التقليدية لتتوافق مع واجهات البرمجة الحديثة.
لكنّ وجود تطبيق مثل «هوية» يُعد نقطة فارقة، لأنه يوفّر «الهوية الموثقة» التي تُبنى عليها المنظومة بأكملها.
الخلاصة
البنوك المفتوحة ليست مجرد تطور تكنولوجي، بل تحول ثقافي واقتصادي يجعل العميل شريكًا لا متلقيًا.
ومع جاهزية البنية التحتية الرقمية والإرادة التنظيمية، تمتلك مصر فرصة حقيقية لتكون مركزًا إقليميًا لاقتصاد البيانات في الشرق الأوسط، حيث تصبح الشفافية والابتكار هما الأساس الجديد للثقة المصرفية.
