إنّ النفس الإنسانية إذا قارعت النوازل، وعاينت شدائد الخطوب، لا تذعن لشعورٍ واحدٍ صافٍ خالص، بل تتوزّعها عواطف وتتجاذبها نوازع متباينة، فيغلب عليها حِينا لوعة الفقد، ثم يزاحمها شجن الاشتياق، وتخالطها مرارة الحرمان، حتى يصير القلب أشبهَ ببحرٍ تتلاطم فيه أمواجٌ متباينة، بعضها يندفع إلى الشاطئ، وبعضها يرتدّ إلى الأعماق، فالحزن إذن ليس لونا واحدا، ولا خطبا منفردا، وإنما هو أطياف من مشاعر تتناوب النفس وتضرب على أوتارها.
عجبٌ أمر الخطوب والنوازل فإنها إذا نزلت بساحِ مَرءٍ لا يستطيع أن يحدد الشعور الذي حلَّ بقلبه فإذا فارقه عزيزٌ أنساه هذا الخطب غيره من النوازل التي حلت به، فهو يُنسيه غيره من الخطوب التي دونه وفي آنٍ يزيدُ أنُّ قلبه لأنه تذكر عزيزا يسبقه، فنكأ هذا الخطب جرحا كاد أن يلتئم وضمَّدَ آخر كاد أن يسيل، فيجد النيران تُأجج في موضع ما من قلبه بينما هي تُخمد في موضع آخر، فتختلط المشاعر في صدره، فلا يدري أهو حزين لفقده؟ أم مفتقد لأُنسه؟ أم مُفتقر لدفعه؟
لذا فالخطب إذا حلَّ بالقلب لا يتفاعل معه القلب بشعور واحد بل بعدة مشاعر، يموج بعضها في بعض، ويناقض بعضها بعضا ويأخذ بعضها من بعض.
ولقد أجاد بعض الشعراء تصوير هذا المعنى، فصوّروه لا بالبرهان العقلي ولا بالاستقصاء الفكري، بل بالمثال الماثل والصورة الناطقة، فها هو عنترة – على شدّته وبأسه – يقول في معلقته:
ما راعني إلا حمولة أهلها .:. وسط الديار تسف حب الخِمخمِ
وخلافه مع قبيلته وأبيه للاعتراف بنسبه ما راعه؟
وحروبه مع النعمان بن المنذر -وهو من هو- وأخيه وابني ضمضم ما راعه؟
تلك التي وصف فرسه فيها بقوله:
يدعون عنتر والرماح كأنها .:. أشطان بئر في لبان الأدهمِ
فازورَّ من وقع القنا بلبانه .:. وشكا إليَّ بعبرة وتحمحمِ
راعه ولا ريب! لكن حين بدا له أثر الفقد ولفحُ الهجر، أقرّ بأنّ أشدّ ما راعه فراقُ حِبِّهِ، كأنما جراح الحرب كلها أهونُ عنده من جرحٍ يسكن القلب ولا يندمل.
وقد زاد البحتري هذا المعنى بيانا في سينيته البديعة إذ يقول:
أذكرتنيهم الخطوب التوالي .:. ولقد تُذكرُ الخطوب وتُنسي
فجعل الخطوب نفسها أداةً للتذكير وأخرى للنسيان، فهي من جهة توقظ القلب إلى مصائب سالفة، ومن جهة تمحو عن النفس آثار شدائد سابقة وذلك هو سرّ تقلبات المشاعر وتدافعها، فكأنّ الخطب ليس شأنا طارئا حلَّ وينجلي، بل هو قانون للنفس، يعيد ترتيب وجدانها ويجدد طبقات حزنها، فيُهيج منها ما سكن ويُخمد ما اضطرم.
فالنفس إذن لا تُدرك الخطب على نسقٍ واحد، بل تتقلب بين الذكرى والنسيان، وبين الحزن والأنس، وبين الشكوى والتجلّد.